لم يكن احتضان حليمة للرسول ورضاعتها له من قبيل
الصدفة،
وإنما بترتيب إلهي لا يعلمه أحد من البشر.. أراد الله أن
يرتوي
نبيه من فصاحة "بني سعد" وهم أفصح العرب، وهو
في المهد
صبيا.. ليكون "أهلا" للوحي والقرآن.
ولد النبي ولم يحمل في مولده معجزة عيسى، ولا في
انتصاراته معجزة موسى.. كل شيء يحدث بترتيب من
الله دون أن يكون هناك شيء خارق، لأن الله أراد أن
تأتي العزة لهذا الدين باجتهاد البشر، وأن تكون معجزة
نبيه هي صناعة الرجال الذين تحملوا مسئولية نشر
الرسالة المحمدية ليعم نورها آفاق الكون.
أحداث لها في حياة الرسول معنى ومغزى.. قلبت وجه
المجتمع ليس في الجزيرة العربية فقط ولكن في الدنيا
كلها.. وهو ما يكشف أسراره الداعية عمرو خالد..
وهو يواصل إبحاره في على خطى الحبيب"
متى أنكرت قريش.. الآلهة؟
ولد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة صبيحة يوم الاثنين
12 ربيع الأول الموافق 20 أبريل سنة 570
ميلادية، بعد خمسين يوماً من حادث الفيل، حيث
حاول أبرهة الحبشي هدم الكعبة، فانتقم الله تبارك
وتعالى من جيش أبرهة، وجاء ذكر الحادثة في القرآن
الكريم: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. ألم
يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل،
ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول".
وكان ميلاد محمد هو أسعد يوم في حياة البشرية كلها،
وأسعد يوم أشرقت فيه الشمس على الأرض.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم بعد ميلاد المسيح عليه
السلام بـ 570 سنة، كانت الأرض متعطشة لمجيء
نبي آخر الزمان ، متعطشة للخير والإصلاح، وقد ولد
في عام الفيل، وكانت أمه السيدة "آمنة بنت وهب"
تحمله في رحمها في الشهر السابع حين وقعت حادثة
الفيل، التي استمع إليها رسول الله مراراً وهو طفل من
أهله في قريش، الذين كانوا يتحدثون عن المعجزة
الربانية التي وقعت فيها بتأثر شديد.
وكانت قريش تحكي لكل أطفالها كيف أنقذ الله مكة
وأنقذ بيته العتيق، وكانوا يروون لأطفالهم قصة هذا
البيت، ومن بناه، وقصة إبراهيم جدهم وجد محمد
صلى الله عليه وسلم.
وحين كانت قريش تروي قصة أبرهة وقصة حفظ
الكعبة، كانت تفعل شيئاً عجيباً، فقد تعودت قريش أن
تخلط بين الآلهة وبين الله تبارك وتعالى، وكانوا يقولون
إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، لكن حين يتحدثون
عن حادثة الفيل لا يذكرون إلا فضل الله سبحانه
وتعالى، ولا ينسبون المعجزة للآلهة الأخرى كاللات
والعزى.
والدليل على ذلك عبارة عبد المطلب جد النبي حين قال
لأبرهة: "للبيت رب يحميه".
فقريش حين تتحدث عن المصالح الاقتصادية تذكر
الآلهة، لكنهم في وقت الشدة والخوف والموت لا
يذكرون إلا الله تبارك وتعالى.. من هنا انطبعت قصة
الفيل في عقل النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل،
ولهذا لم يعبد النبي صلى الله عليه وسلم صنماً قط.
والنبي حين كان يشتغل بالبيع والشراء والتجارة، كان
يقول له أحدهم: "أتقسم باللات والعزى أن البضاعة
هذه ثمنها كذا، فيحمر وجه النبي ويقول: "والله ما
عبدتهما حتى أقسم بهما".
تأثير قصة أبرهة على محمد
أصبح على هذه القناعة حين فشلت قريش في تزييف
حادثة الفيل بربطها بالأصنام أو بالآلهة الأخرى،
فسمع النبي من أجداده وأعمامه ومرضعاته وأمه أن
جيشاً ضخماً أتى إلى مكة بهدير رجاله وكانت
الأرض ترتج تحت أرجل أفياله، فخاف الناس وفروا إلى
الجبال وارتفعت أكفهم إلى السماء يستنجدون بها
ويقولون: يا رب.. كل مكة كانت تتضرع إلى الله
وتقول: يا رب وقالوا لمحمد إن الوحيد الذي توجه إلى
الغزاة ووقف في مواجهة أبرهة هو جده عبد المطلب
وراح أبرهة يسخر منه حين قال له: للبيت رب
يحميه، وفجأة أثناء عودة عبد المطلب إلى مكة جاءت
الطيور وأخذت ترشق الأفيال والرجال الغزاة بحجارة
صغيرة مشتعلة. وهكذا دافع الله عن بيته، ولنا أن
نتخيل كيف ألهبت هذه الحكاية وجدان النبي وفكره
وهو طفل صغير، وكيف ساهمت هذه المواقف في
إنضاج عقل النبي مبكراً فجعلته يسبق أقرانه.
ولا أحد يعرف هل كان النبي هو أول طفل يولد خلال
الخمسين يوماً التي أعقبت حادثة الفيل، أم أن أحداً
غيره ولد في هذه الفترة، وظلت آمنة بنت وهب تغرس
هذه القصة في وجدانه وتحكيها له مراراً حتى ماتت،
علماء النفس يقولون إن السنوات الست الأولى من
عمر الإنسان هي التي يمتلك فيها ذاكرة قوية، ولهذا
تلازمه المعلومات التي يستقيها ممن حوله في تلك الفترة،
حتى آخر عمره، الغريب أن الذين حكوا له المعجزة
الإلهية في الدفاع عن البيت العتيق هم الذين كذبوه بعد
ذلك، رغم أنهم رأوها بعينهم وعايشوها.
والله سبحانه يقول للنبي: "ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل"، ورغم أن النبي هو الذي لم يعاصرها
ولم يراها بعينه مثلهم.
ثم تأتي السورة التالية لهذه السورة: "لإيلاف قريش
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" كأن الله سبحانه يقول
لهم: "أنتم تكذبون ما رأيتمونه بأعينكم، لأنكم
تجرون وراء مصالحكم التجارية، أنتم تخافون على طريق
التجارة الخاصة بكم، فإذا ما سمحتم بهدم الأصنام حول
الكعبة فإن القبائل التي تعبد هذه الأصنام ستقطع
علاقتها التجارية معكم، ولن تأمن قوافل تجارتكم التي
تمر عبر أراضيهم.
ما نلخص به من هذه الواقعة أن رؤية ومعايشة
الأحداث العظيمة تنتج شخصيات عظيمة، لها تكوين
نفسي قوي.